
ثورة 21 سبتمبر غيرت المسار نحو الاكتفاء الذاتي
الضريس: اليمن كان قبل عام 1956 مكتفياً ذاتياً بالنسبة للاستهلاك من محاصيل الحبوب
عمير: القطاعات الاقتصادية في اليمن لم تكن تتمتع باستقلالية في إدارتها وخططها في حقبة الحكومات ما قبل ثورة 21 سبتمبر 2014م
أبو طالب: السلطة والحكومة بدأتا بعد 21 سبتمبر في تصحيح النهج والتمسك بمبدأ الاكتفاء الذاتي بإطلاق الثورة الزراعية بصورة متوازية مع إنجازات الجيش
ارتهنت السياسة العامة للحكومات المتعاقبة منذ الستينات؛ للتفكير الخارجي الذي يرى واقعنا بمنظوره الخاص، وحولنا إلى سوق استهلاكية، وبلد يستورد 99 % من احتياجاته الأساسية، رغم ذلك ظل المزارع اليمني صامداً قوياً يتحدى أعاصير التغيرات السياسية، وسبل الكسب المختلفة التي تسحبه وتبعده عن أرضه.
اليمن الزراعية – الحسين علي
وفي هذا الشأن يقول المهندس عبده الضريس إن اليمن كان قبل عام 1956م مكتفياً ذاتياً بالنسبة للاستهلاك من محاصيل الحبوب، بل كان يصدر الفائض من محصول الذرة إلى الدول المجاورة، وخاصة بعد الحرب العالمية الثانية، حيث قام بتصدير سفن من الذرة إلى ألمانيا وروسيا والمملكة العربية السعودية على سبيل المثال.
ويشير إلى أن بداية التغلغل الذي غزا اليمن على هيئة هبات وهدايا، “أول شحنة قمح كانت 14 ألف طن دخلت اليمن عام 1956م، وكانت على شكل هبة توزع مجاناً، ولم يستسيغها المجتمع اليمني؛ لأنها لا تتناسب ونمطه الغذائي الذي كان سائداً في تلك الفترة، منوهاً إلى أنه بدأت تحاك ضد اليمن المؤامرات كي يغير نمطه الغذائي، ويعتمد على القمح المستورد من الخارج، ويتم إبعاده عن النمط الغذائي الذي كان يعتمد على الإنتاج المحلي من محاصيل الحبوب بمختلف أنواعها بالدرجة الأساسية على محصول الذرة الرفيعة والذرة الشامية والدخن والشعير، وأما الحنطة (القمح) الذي كان ينتج محلياً كافياً للنمط الغذائي السائد في تلك الفترة.
وعن التحول السرطاني الذي أصاب جسد الأمة اليمنية منذ ذلك الوقت بسبب سياسة الحكومة، يقول المهندس عبده الضريس إنه وبعد استشهاد الرئيس إبراهيم الحمدي تم الغاء مؤسسة الحبوب التي تم إنشاؤها في بداية السبعينات أيام قيادة الحمدي، لتكون معنية بالأمن الغذائي، ولكن ما حدث هو تصفيتها بعد استشهاد الرئيس الحمدي، واستبدالها بالمؤسسة العامة للتجارة الخارجية والحبوب؛ لتكون مظلة لاستيراد القمح الخارجي ودعمه من قبل الحكومة اليمنية، بدلاً من دعم الإنتاج المحلي.
ويتابع: “في نهاية السبعينات، وبداية الثمانينات من القرن الماضي تطورت العملية، وتم إنتاج أصناف من الحنطة (قمح) تتناسب مع النمط الغذائي اليمني، ولكن للأسف سرعان ما بدأت السياسات الحكومية في استيراد القمح الخارجي، ودعمه من خلال الموازنة العامة للدولة ضمن سياسة الحصص للمحافظات، والمديريات، وبحسب ما تمليه السياسات الاستعمارية التي كانت تتبناها من قبل المنظمات الدولية كالبنك الدولي ومنظمة الأغذية والزراعة الفاو.
الواقع يتغير
وعن التغييرات في السياسات الحكومية بعد 21 سبتمبر 2014 يوضح المهندس الضريس أن الحركة في القطاع الزراعي اتجهت إلى السعي الحثيث للاكتفاء الذاتي، حيث تم إنشاء المؤسسة العامة لتنمية وإنتاج الحبوب بموجب قرار اللجنة الثورية برقم (366) لعام 2016م بهدف تحقيق الاكتفاء الذاتي من محاصيل الحبوب للجمهورية اليمنية، ولغرض زيادة إنتاج محاصيل الحبوب بما يحقق بصورة تدريجية الاكتفاء الذاتي من الحبوب بشكل عام، والقمح بشكل خاص، وتعزير وتطوير إنتاج الحبوب وتخفيض تكاليف الإنتاج.
كما تم تأسيس اتحاد منتجي الحبوب من خلال إنشاء الجمعيات المجتمعية لضمان استدامة إنتاج محاصيل الحبوب، وتشجيع المزارعين للتحول نحو زراعة محاصيل الحبوب، بالإضافة، إلى تشجيع ودعم البحوث الزراعية الهادفة للاستفادة من زراعة الأراضي المطرية والمروية وتطوير الإنتاجية وتوجيه برامج البحوث بما يخدم تنفيذ أهداف المؤسسة، إضافة إلى الاستمرار في تنمية الوديان وإقامة القنوات والحواجز الترابية وتشجيع استخدام تقنيات حصاد مياه الأمطار، وإعطاء دور أكبر للمناطق الريفية للمساهمة في تأمين جزء من الاحتياجات الغذائية، والسعي لتحقيق أداء مؤسسي متميز ومستدام من خلال التطوير الشامل للموارد البشرية، والنظم والإجراءات الإدارية والفنية الفاعلة، وتعزيز الإطار المؤسسي وتوضيح الأدوار والمسؤوليات، وبناء علاقات تكاملية مع الجهات ذات العلاقة.
وينوه الضريس، وهو خبير زراعي في محاصيل الحبوب أن التغير الذي حدث في السياسة الزراعية إبان 21 سبتمبر 2024 كان له العديد من النتائج والمؤشرات الموجبة نحو الاتجاه في رفع الإنتاج والإنتاجية لمحاصيل الحبوب منذ نشأت المؤسسة، ومن هذه المؤشرات، دخول مناطق جديدة لإنتاج القمح لم تكن من السابق تنتج القمح كمحافظة الجوف التي كان الإنتاج فيها ضعيف جداً، ولا يلبي الاحتياج الأسري، كما تدل على ذلك كتب الاحصاء الزراعي خلال تلك الفترة، بالإضافة لتحسين مستوى الإنتاجية الهكتارية من خلال الإحصاء الزراعي والتي كانت لا تتجاوز 1.7 طن/هـ حتى عام 2016م بينما بلغت 2.26طن/هـ في عام 2021م بزيادة بلغت 56%، وهذا مؤشر إيجابي قد يعود إلى البرامج والأنشطة والمشاريع التي جاءت بعد التغيير في السياسة العامة للدولة نحو الاكتفاء الذاتي عن الحقبات السابقة.
تبعية اقتصادية
بدوره يوضح الدكتور شعفل عمير باستفاضة وهو مدير قطاع التقنيات بالهيئة العامة للبحوث والارشاد الزراعي كيف عاشت القطاعات الاقتصادية في البلاد حقبات الزمن الماضي، ويقول: “لم تكن القطاعات الاقتصادية في اليمن تتمتع باستقلالية في إدارتها وخططها في حقبة الحكومات قبل ثورة 21 سبتمبر 2014م، حيث كانت تخضع لسياسات البنك الدولي والمنظمات التابعة له، الأمر الذي جعل من اليمن دولة خاضعة تماماً للتبعية الاقتصادية.
وهنا يمكن استعراض القطاع الزراعي كنموذج لهذه التبعية، فقد استهدف هذا القطاع في كل مفاصله، وفي سياساته أولاً إذ لم يكن يمتلك هذا القطاع سياسة زراعية طموحة؛ كونه مقيد بما تملي عليه المنظمات المانحة، وشروط البنك الدولي إلى الحد الذي كانت بعض مؤسسات القطاع الزراعي تفتقر لوجود لائحة تنظم عملها، ناهيك عن وجود خطط مستقبلية تهدف إلى التخلص من التبعية الغذائية، فقد وصل الحال إلى أن تضع المنظمات الدولية سياسة اليمن الزراعية التي كانت تجذّر التبعية لها بشكل كبير.
ويضيف: “عانت وزارة الزراعة من اختلال في هياكلها، فأصبح هيكلها يخدم الجانب الإداري بعيداً عن الهدف الذي يعد من صميم عمل الوزارة، فأصبح هيكلاً يفتقر إلى توصيف وظيفي، مما تسبب في تداخل المهام والاختصاصات.
ويشير عمير إلى أن المنظمات عملت على تغيير السلوك الغذائي للمواطن لخدمة المنتجات المستوردة، حيث “لم يكن للمنظمات حدود في تدخلها فقد فرضت شروطاً عجيبة منها: عدم زراعة القمح، أو الاهتمام بزراعته تحت مبرر أن اليمن يعاني من شحة في المياه، كما عمدت هذه المنظمات إلى تغيير النمط الغذائي للشعب اليمني تغييراً يخدم الاستهلاك الأكثر من المحاصيل المستوردة، بالإضافة إلى التدخل غير المباشر، وهو أن تلك المنظمات عمدت إلى خلق قناعة لدى اليمنيين بأن المساحة الصالحة للزراعة لا تكفي لتحقيق الاكْتفاء الذاتي.
وينوه الدكتور شعفل عمير إلى أن السياسة الممنهجة للمنظمات لخلق أفكار وأحكام نهائية لدى اليمني أن بلده لا يمكن أن يكتفي ذاتياً، حيث “روجت المنظمات بأن المساحة الصالحة للزراعة لا تتجاوز المليون هكتار فأصبحت قناعة مترسخة لدى الكثير آنذاك، مؤكداً، في هذا الصدد عدم صحة أرقام المنظمات، فقد أثبتنا عدم صحة هذه البيانات في دراستنا للموارد الزراعية، وتأكدنا أن المساحة الصالحة للزراعة في محافظة الجوف فقط، مليون هكتار.
تصحيح المسار
وفي السياق نفسه يشير المهندس محمد أبو طالب إلى أن السياسة الاستعمارية الممنهجة التي وصلت حتى إلى برامج وهمية بيئية باسم قروض وهبات للحكومة اليمنية منها مشاريع بيئية بإدخال أنواع من الأشجار وإنشاء المشاتل لإكثارها وزراعتها في البيئة اليمنية ونشر بذورها عبر الطائرات، رغم امتلاك اليمن آلاف الأنواع من الأشجار الحراجية الملائمة للبيئة اليمنية من حيث قيمتها الغذائية للحيوانات المزرعية والبرية والتي تتمتع زهورها بمصدر جيد وممتاز لإنتاج العسل والفحم والحطب الجيد للوقود، وأخشاب للبناء، ومصادر لزيادة تغذية المياه الجوفية بانتشار جذورها وقلة احتياجاتها المائية.
ويشرح المهندس أبو طالب الأنواع التي تم ادخالها للبلاد أنها ضارة بالبيئة اليمنية من جميع النواحي، “نباتات غير رعوية للحيوانات والنحل ولا تصلح لصناعة الفحم والوقود أو الأخشاب ومنافسة للنباتات المحلية مسببة تدهورها وانحسارها، وفي كثير من الأحيان تقضي على الأنواع المحلية عبر المنافسة الشديدة لها.
ويزيد: “ولكن مع انبثاق نور ثورة الـ 21 من سبتمبر 2014م بدأت السلطة والحكومة في تصحيح النهج والتمسك بمبدأ الاكتفاء الذاتي بإطلاق الثورة الزراعية بصورة متوازية مع إنجازات الجيش واللجان الشعبية، ووضع المرتكزات الأساسية للثورة الزراعية المتمثلة في الغذاء والكساء والدواء، والعودة باليمني إلى أسس الحضارات اليمنية المبنية على الأعراف والتقاليد في التعاون والإحسان، واحياء المبادرات المحلية والعرف القبلي المتمثل بالجاشة والفزعة والغرم، فانطلق المواطنون اليمنيون بلهفة في بناء السدود والمرافق وشق الطرقات.
كما ساندت الحكومة في إنشاء اللبنة الأساسية للنهوض بالزراعة بتكاتف اللجنة الزراعية والسمكية العليا، ووزارة الزراعة والري، وبتفعيل دور الاتحاد التعاوني الزراعي وإنشاء الجمعيات الزراعية على مستوى المديريات والعزل، وعلى نهج يعيد ثقة المزارعين بها، بهدف تلبية احتياجات المزارعين من مستلزمات الزراعة، مع اطلاق برنامج الزراعة التعاقدية لجذب التجار الذين كانوا يدفعون مقدماً نصف القيمة للمحاصيل التي يستوردونها للمزارع الأجنبي بدفعها للمزارع المحلي ليقوم المزارع اليمني بتوفيرها بدلاً عن المزارع الأجنبي تشجيعاً وثقة للمزارع اليمني للعودة لأرضه وإحياء المعارف والمعالم الزراعية في العمليات الزراعية الصحيحة والسليمة، والمساهمة القوية في عملية الاكتفاء الذاتي بإنتاج محاصيل زراعية عضوية صحية خالية من الملوثات الكيماوية الضارة بالإنسان والحيوان والبيئة والأرض، والعودة للنمط الغذائي الصحي.