حواراتصحافة

من سنابل اليمن إلى موائد الأعياد

كعك العيد.. عبق الأرض وتاريخ الأجداد

           مع اقتراب حلول عيد الأضحى المبارك في اليمن، لا تقتصر البهجة على الثياب الجديدة والتجمعات العائلية، بل تتجاوز ذلك لتلامس شغاف الروح عبر روائح تُنعش الذاكرة وتُحرك الحنين.. إنها روائح كعك العيد. 

هذا الكعك ليس مجرد حلوى تُقدم في المناسبات، بل هو نتاج علاقة وثيقة وتاريخية بين الإنسان اليمني وأرضه الطيبة، فمن سنابل القمح الذهبية والدخن والشعير ومختلف أنواع الحبوب التي ترقص في حقولنا ومدرجاتنا الزراعية، إلى حبات السمسم وحبة البركة التي تُجود بها أراضينا، يُنسج هذا الكعك قصة اكتفاء ذاتي، وعراقة موروث غذائي، وصمود لا يتزعزع.. إنه احتفال بالخيرات المحلية، وبجهود أجيال توارثت فنون الخبز، محوّلةً محاصيلنا إلى رمز للفرح والبركة، يجد طريقه إلى كل بيت، مُعلنًا قدوم العيد.

اليمن الزراعية |أفراح القاز

لم يعد هذا الفن حبيس البيوت فقط، بل تحول إلى مشاريع صغيرة تُديرها أيادٍ يمنية مبدعة، فقد توجهت الكثير من النساء اليمنيات لعمل هذه المشاريع المنزلية، لتصنيع الكعك بمختلف أنواعه من محاصيل الحبوب المحلية.
هذا التوجه ليس وليد الصدفة، بل هو حرص على القيمة الغذائية العالية، والجودة الفائقة في الصنع، مع المساهمة في دخل الأسرة وتعزيز الاقتصاد المحلي.. إنه احتفال بالخيرات المحلية، وبجهود أجيال توارثت فنون الخبز، محوّلةً محاصيلنا إلى رمز للفرح والبركة، يجد طريقه إلى كل بيت، مُعلنًا قدوم العيد.
طلب مستمر على المنتجات الأصيلة
تُقدم لنا “أمال يحيى”، إحدى رائدات هذا المجال في التصنيع الغذائي، رؤية أعمق لهذا المزيج بين التقليد وريادة الأعمال.
تقول آمال: “أعتمد في صنع الكعك على الدخن والشعير والعدس والشوفان والمكسرات لما له من قيمة غذائية لبعض المرضى منهم السكري”، موضحة “أعمل خبز الدخن والعدس كبديل لخبز القمح والطحين”، مشيرة إلى أن هذه المكونات لا تضمن جودة المنتج فحسب، بل تفتح آفاقًا جديدة لأنواع كعك صحية ومناسبة لاحتياجات غذائية متنوعة.
وتواصل: “كنت أبيع قبل عشر سنين وكان هناك إقبال كبير ولليوم”، مؤكدةً على الطلب المستمر على هذه المنتجات الأصيلة، لكنها لا تخفي التحديات، فمع غلاء الأسعار، الزبدة والدقيق والمكسرات أصبح صعب علينا أن نبيع، ناهيك عن مشكلة الغاز، وفرن “البوتجاز” العادي، وهذا الذي يجعلنا نتعب، ولا نستطيع الاستمرار، إضافة إلى أن الناس ظروفهم المادية صعبة ولا يستطيعون الشراء بأسعار مرتفعة”.
هذه الصعوبات الاقتصادية واللوجستية تهدد استمرارية هذه المشاريع الحيوية التي تعتمد على الطلب الخاص، “حسب الطلب وممكن دقيق مركب، لكن للأسف سعره غالي.”

رؤية من قلب المطبخ اليمني
من جانبها، تتحدث أم هاشم، وهي رائدة في مجال تصنيع الكعك بمختلف أنواعه، عن مشروعها “المطبخ الراقي”، والذي يختص بتحضير المعجنات والحلويات المتنوعة، مؤكدة أنه يتميز بتقديم جميع أنواع المعجنات المصنوعة من حبوب مختلفة.
وتركز على استخدام المحاصيل المحلية والزيوت الطبيعية، مثل زيت السمسم، في تحضير منتجاتها، مع التأكيد على أنها ذات مستوى كوليسترول منخفض.
ويسعى “المطبخ الراقي” لتلبية رغبات الزبائن من خلال تقديم طلبات مخصصة وتغطية وجبات الأفراح والمناسبات، مشيرة إلى أن أحد أبرز المعوقات التي تواجهها هي التسويق، معربة عن أملها في إيجاد منصات مناسبة لعرض وتسويق منتجاتها، بالإضافة إلى الحاجة الماسة لـتصوير احترافي يبرز جمال وجودة المنتجات.
أما لينا فاطمة محمد، وهي من الأسر المنتجة، فقد ورثت سر صناعة الكعك عن أمها، وعن فخرها بالاعتماد على المكونات المحلية تقول: “لم نعد ننتظر وصول البضاعة من الخارج، فدقيق القمح والشعير من حقولنا، والسمن البلدي من مواشينا، حتى السمسم وحبة البركة نزرعها في أراضينا، أو نحصل عليها من الأسواق المحلية الموثوقة، و هذا يعطي الكعك روحاً وطعماً لا يمكن للمستورد أن يضاهيه.
وتتنوع أشكال ونكهات كعك العيد اليمني والبسكويت المصنوع محليًا، ويعكس كل نوع منها جزءًا من التراث الغني للمطبخ اليمني، ومن أبرز هذه الأنواع ومكوناتها:

  • الكعك التقليدي (بالسمسم وحبة البركة): حيث يعد هذا النوع هو الأكثر شيوعًا وشعبية، ويتكون بشكل أساسي من طحين القمح المحلي، السمن البلدي أو الزيت، الملح.
  • الكعك بالتمر (المعمول اليمني): يُعد هذا النوع تحفة فنية بحد ذاتها. يُحشى الكعك بعجينة التمر الطازج المخلوط بالسمن والهيل، ليقدم تجربة مذاقية غنية تجمع بين حلاوة التمر ونكهة الكعك الهشة. غالبًا ما يُشكل المعمول باستخدام قوالب خشبية تضفي عليه أشكالاً جمالية مميزة.
  • الكعك بالشمر والينسون: يعتمد هذا النوع على إضافة بذور الشمر والينسون إلى العجينة، ما يمنحه نكهة عطرية منعشة ومختلفة، ويُعرف بفوائده الهضمية أيضًا
    وتتميز هذه المكونات بكونها متوفرة بكثرة في اليمن، فمحاصيل الحبوب مثل القمح والشعير تُزرع في مناطق مختلفة من البلاد، والسمن البلدي ينتج محليًا، بالإضافة إلى التمور والبهارات التي تشتهر بها اليمن.
    عودة إلى الأصالة ودعم للمنتج الوطني
    ويشهد كعك العيد المصنوع محليًا إقبالاً كبيرًا من قبل المستهلك اليمني، مقارنة بالمستورد، حيث يفضل المستهلكون المنتجات المحلية لثقتهم بجودة المكونات المستخدمة وطرق التصنيع التي غالبًا ما تتم في بيئات نظيفة ووفقًا للعادات والتقاليد ناهيك عن النكهة والمذاق الذي يذكرهم بالطفولة ودفء العيد.
    ويعتمد الكعك المحلي على مكونات طازجة موسمية، ويُصنع بكميات صغيرة، ما يحافظ على طعمه الأصيل ونكهته المميزة التي يصعب تقليدها في المنتجات المصنعة بكميات كبيرة، إضافة إلى خلوه من المواد الحافظة على عكس المنتجات المستوردة التي تحتوي غالبًا على مواد حافظة لإطالة مدة صلاحيتها، ما يجعله خيارًا صحيًا أكثر.
    المساهمة في الاقتصاد المحلي
    شراء المنتج المحلي يدعم المزارعين والأسر المنتجة وصغار التجار، ويقلل من الاعتماد على الاستيراد، ما يعزز الاكتفاء الذاتي ويسهم في تنمية الاقتصاد الوطني.
    وتعد هناء محمد، واحدة من ربات المنازل، التي تحولت إلى معلمة معجنات مُلهمة.
    وتقول هناء: “بدأت رحلتي كمعلمة ومدربة الأنشطة، بشغف بسيط نحو تعلم أساسيات صنع الحلويات، فرغبتي في توفير المال والاعتماد على نفسي في إعداد الكعك والبسكويت والكعك البلدي سجلت في دورة متخصصة، موضحة أنه مع كل خطوة في الدورة، اكتشفت أن الأمر أسهل وأكثر متعة مما كات تتوقع، مواصلة: “لدي رغبة قوية في الاستمرار في التعلم والإبداع”.
    وتواصل: “لم أتوقف عند إتقان هذه المهارة لنفسي، بل شاركت خبرتي مع أخواتي، وجيراني، لتعليمهم فنون المعجنات التي أتقنتها، منوهة إلى أنها حصلت على شهادة في هذا المجال، لتصبح مؤهلة بشكل رسمي لتعليم فنون الحلويات، مقدمة امتنانها وشكرها لكل من ساعدها وشجعها، وخاصة الجهات التي تدعم المرأة وتمكنها من اكتساب مهارات مفيدة لحياتها الأسرية.
    وبصفتها معلمة أنشطة، تؤكد هناء أنها تحرص على نقل هذه الخبرة إلى الطالبات، و غرس حب الإبداع واللمسة الشخصية في كل ما يصنعونه.
    وتشهد الأسواق إقبالًا متزايدًا على الكعك والبسكويت المحلي، حيث عبّر المستهلك “عبد الرحمن ناجي” عن رأيه قائلًا: “طعم الكعك اليمني لا يُقارن، ففيه نكهة تذكرني بطفولتي وأعياد زمان، وجودته عالية، لأنه محضر من حبوب محلية”.
    ويضيف: “صحيح أنه أحيانًا أغلى من المستورد، لكن فرق الطعم والجودة يستحق الفرق البسيط في السعر، وكذلك دعم للمنتج المحلي وتخفيض فاتورة الاستيراد”.
    من جانبه، يتحدث التاجر “هاني عبد السلام ” عن المنتج المحلي قائلًا: “الكعك اليمني مرغوب من الزبائن، والجودة ممتازة لأن المواد المستخدمة طبيعية ومحلية.. لكن في رأيي، يحتاج إلى تغليف أفضل وطرق تعبئة حديثة، وترويج لجذب المزيد من الزبائن، آملاً أن يتم خفض الأسعار قليلًا حتى يكون في متناول الجميع”.
    إنّ صناعة كعك العيد، والاعتماد على المكونات المحلية ليست مجرد قصة نجاح اقتصادي في ظل ظروف صعبة، بل هي قصة صمود وإصرار، تجسد قدرة المرأة اليمنية على تحويل التحديات إلى فرص.. إنها رسالة بأن الاكتفاء الذاتي ليس حلماً بعيد المنال، بل هو واقع يمكن تحقيقه بأيادٍ وطنية تؤمن بقدرات بلادها، وتستثمر في خيراتها.
    ومع الدعم المناسب، يمكن لهذه الصناعة المنزلية أن تتطور لتصبح رافداً مهماً للاقتصاد الوطني، وتساهم في تحسين مستوى معيشة آلاف الأسر اليمنية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى