
تعد سلة اليمن التي تُطعم البلاد وتنتظر “ثورة استثمارية” لإنقاذ الاقتصاد
منصة ذهبية لجذب الاستثمارات
في وسط السهل التهامي الخصيب، حيث تتدفق السيول لتحتضن تربة لم تُستغل، تزداد خصوبتها عامًا بعد عام، تتجلى إحدى أكبر المفارقات التنموية في اليمن، فهذه المنطقة، التي تستحق بجدارة لقب “سلة غذاء اليمن”، لا تكتفي بكونها مناظر طبيعية رائعة، بل إنها المحرك الذي ينتج أكثر من 40% من الإنتاج الزراعي في البلاد، ويغذي ملايين اليمنيين.
اليمن الزراعية- أيوب أحمد هادي
ومع ذلك، فإنها لا تزال تواجه تحديات تتعلق بالطرق التقليدية في الزراعة، بين وفرة المحاصيل وقلة المياه، وبين الفرص الضائعة والاستثمارات القليلة؛ لتستمر معركة تهامة من أجل البقاء والتقدم الاقتصادي.
وتهامة ليست مجرد منطقة زراعية عادية، بل هي كنز جيولوجي فريد في شبه الجزيرة العربية، حيث تتميز هذه البقعة بخصوبة استثنائية نتيجة للتربة الفيضية التي تجلبها الأودية الواسعة مثل (مور، سردد، رماع، زبيد، وسهام)، وتعمل هذه الأودية كشرايين طبيعية، حيث تنقل الطمي الغني بالعناصر الغذائية من المرتفعات الجبلية إلى السهول، مما يساهم في تجديد نشاط الأرض كل عام، وهذا التكوين الفريد خلق تنوعاً محصولياً مذهلاً يندر وجوده في منطقة واحدة؛ فمن الحبوب الاستراتيجية كالذرة والدخن، إلى “ملك الفواكه” المانجو، والبابايا والموز، وصولاً إلى المحاصيل النقدية التي تمثل مواداً أولية للصناعة كالسمسم والقطن فول الصويا.
الواقع الزراعي.. أرقام تدعو للتفاؤل
وتنتج تهامة 65% من إجمالي إنتاج اليمن من الحبوب، و70% من الخضروات، و85% من الفواكه الاستوائية، كما تبلغ مساحة الأراضي القابلة للزراعة فيها أكثر من مليون ونصف هكتار، ما يعادل 25% من إجمالي الأراضي الزراعية في الجمهورية، ويعتمد75% من سكان تهامة بشكل مباشر على الزراعة كمصدر وحيد للرزق.
وعلى الرغم من هذا الثراء الإنتاجي، إلا أن القطاع الزراعي يواجه معضلة “الهدر” الكبير، حيث يؤكد الخبراء أن غياب الصناعات التحويلية (مثل مصانع معاجين الطماطم، وتعبئة العصائر) يحول فائض الإنتاج من نعمة إلى نقمة، مشيرين إلى أن غياب سلاسل التبريد والمستودعات المجهزة يجعل المزارع البسيط فريسة سهلة لتقلبات السوق وجشع الوسطاء، حيث يضطر لبيع محصوله بأثمان بخسة قبل أن يتلف، مما يفقد الاقتصاد اليمني مليارات الريالات سنوياً.
وخلف هذه الأرقام، تكمن قصص مزارعين يكافحون للبقاء، فالمزارع سالم محمد من مديرية الدريهمي يصف الوضع قائلاً: “نزرع الأرض كما زرعها أجدادنا منذ مئات السنين، ننتج الطماطم والبصل والحبوب، لكن أغلب محاصيلنا تفسد بسبب عدم وجود معامل للتغليف والتعبئة، فالأسعار تتذبذب بشكل مخيف، والمياه تقل في آبارنا كل عام”.
ومن مديرية التحيتا، يشير المزارع قاسم عمر إلى معضلة تقنية قائلاً: “نحتاج إلى دعم حقيقي، فالطاقة الشمسية كانت حلاً لتوفير كلفة الوقود، لكنها زادت من استهلاكنا للمياه الجوفية بشكل غير مدروس، مضيفاً: “نريد التحول للري الحديث لكن التكلفة عالية جداً.
أما عبدالله علي من مديرية المراوعة، فيحذر من منافسة كبار المستثمرين الذين يضخون المياه بكميات هائلة، مطالباً بتنظيم عادل يضمن الاستدامة.
الأمن المائي.. الضامن الخفي للاستدامة
في حديث معمق مع أستاذ المياه الجوفية بجامعة الحديدة الدكتور غنيم ناشر، يشخص واقع المياه بأن الفجوة بين التغذية الطبيعية والسحب الجائر من الخزان الجوفي وصلت إلى أكثر من 40% في بعض الاحواض، وهذا يعني استنزافاً خطيراً يهدد تدهور الموارد المائية كمياً ونوعياً، مما يؤثر على انتاج المحاصيل وعدم صلاحية محاصيل أخرى للزراعة في حال استمرار تدهور نوعية المياه وغياب الرقابة عليها.
ويبين الدكتور ناشر أن البنية التحتية الحالية للري غير قادرة على تلبية طموحات التصنيع الزراعي، فالري بالغمر لا يزال سائداً؛ لأن التحول للري الحديث (بالتنقيط والرش) يتطلب استثمارات رأسمالية لا يملكها صغار المزارعين، وهنا يمكن التحول التدريجي لطرق الري الحديث عبر إعادة تنشيط وتدريب لجان المياه، أو اللجان الزراعية المجتمعية وربطها بقروض ميسرة عبر كاك بنك كما كان سائداً في السابق، أو هيئة الزكاة، أو اللجنة الزراعية السمكية العليا
داعياً إلى الصيانة والتحسين للري السيلي بما يخفف الضغط على الضخ الجائر للمياه الجوفية وكذلك التركيز على حصاد مياه الامطار وتغذية الآبار الجوفية.
ويشير إلى أن تطبيق نظام “حصص مائية ذكي” تمنع الضخ الجائر عبر عدادات مائية مع الالتزام باللوائح المحددة لحفر الآبار من ناحية المسافة بين الآبار وعمق البئر وكمية الضخ المسموح بها، كما أن تحديد نطاقات استثمارية تراعي التوازن بين كميات ضخ المياه لأغراض الري وتغذية المياه الجوفية عبر مراقبة مستمرة لمناسيب المياه الجوفية في كل الأحواض.
سلاسل القيمة
في قراءة تحليلية لواقع الهدر والفرص الضائعة، يضع الأستاذ عبده محمد عديش (خبير ومستشار إستراتيجي في تطوير وتقييم برامج التنمية المستدامة) يده على الجرح النازف للاقتصاد التهامي، مؤكداً أن تهامة بمقدراتها الهائلة لا تزال تُغادرها المنتجات كـ “مواد خام” قبل أن تتحقق قيمتها الحقيقية.
ويقول عديش: “اليمن اليوم يخسر نحو 70–80% من القيمة الاقتصادية الكامنة لمزارعه بسبب تصدير المانجو والطماطم والحبوب دون أي تصنيع محلي. هذا ليس مجرد فقد مالي، بل هدر للوظائف، وضياع للسيولة المحلية، وفرص ضائعة لتحويل الفلاحين من منتجين متفرقين إلى شركاء اقتصاديين فاعلين”.
ويوضح حجم الكارثة الفنية بقوله: “الهدر بعد الحصاد يصل إلى 30–40% نتيجة سوء التخزين والنقل، مشيراً إلى أن هذه الخسارة المباشرة يمكن تحويلها إلى قيمة مضافة عبر صناعات معجون الطماطم، العصائر، والفواكه المجففة التي تحمل هوية اليمن. سلاسل القيمة هي الحل لربط المزارع مباشرة بمصانع التعبئة، مما يخلق أماناً سعرياً ويرفع هامش الربح من نفس مساحة الأرض”.
ويرى عديش أن الحديدة وتهامة تشكلان “منصة ذهبية” لجذب الاستثمارات، لكن ذلك يتطلب بيئة ذكية: “الحوافز الاقتصادية ليست مجرد إعفاءات، بل أدوات استراتيجية لخلق فرص عمل. نحن بحاجة لقانون استثمار خاص بتهامة يراعي خصوصيتها المناخية، ويضمن مشاركة المزارع الصغير كشريك حقيقي، ما يربط بين النمو الاقتصادي والاستدامة البيئية”.
ويؤكد الخبير الاستراتيجي أن التمويل هو العمود الفقري لهذا التحول: “نقص السيولة والتقلبات المناخية تجعل الاستثمار الزراعي محفوفاً بالمخاطر، وهنا يأتي دور البنوك في توفير قروض مرنة مرتبطة بعقود إنتاج مسبقة، مع تفعيل التأمين الزراعي الشامل الذي يحمي المزارع من الجفاف أو الفيضانات عبر تقنيات مراقبة ذكية”.
ولا يتوقف طموح التنمية عند الحدود المحلية، حيث يشير الأستاذ عديش إلى أن منتجات تهامة كالمانجو والباباي تمتلك جودة عالمية، لكنها تفتقر للهوية البصرية والمقاييس الدولية.
ويقول: “نحتاج إلى علامات تجارية محلية مسجلة ومعايير تصدير صارمة، فالربط اللوجستي المباشر بين المزارع وموانئ الحديدة والصليف سيقلل التكاليف ويحسن ميزان المدفوعات، محولاً الزراعة من نشاط تقليدي إلى صناعة منافسة دولياً”.
وضمن الرؤية المتكاملة، تبرز مدينتا باجل والمراوعة كمركزين اقتصاديين وزراعيين لتهامة، فهما مركزي التجميع والتوزيع، وموطن أكبر أسواق للمواشي.
ويرى الخبراء أن تعزيز بنيتهما التحتية وتطوير طرقهما وتحسين شبكات النقل بهما سيحولهما إلى مركزين استثماريين وسياحيين متكاملين يقوي قدرة المنطقتين على منافسة الأسواق الدولية.
وعن العلاقة بين السهل والجبل، يوضح عديش أن السلسلة الجبلية المطلة على تهامة هي “خط دفاع بيئي واقتصادي”، فأجواؤها الباردة تكمل حرارة تهامة، وحواجز التهدئة التقليدية (الشبوك والجبيوينات) تحمي الأراضي من الفيضانات، بينما تفتح الجبال آفاقاً للسياحة البيئية والزراعية المستدامة.
العناقيد الصناعية الزراعية.. رؤية للمستقبل
وعلى صعيد متصل، يطرح المهندس فواز العذري مدير عام الهيئة العامة لتطوير تهامة رؤية “العناقيد الصناعية”، وتستهدف ثلاث مناطق رئيسية:
- عنقود الزهرة: متخصص في الخضروات والفواكه.
- عنقود المراوعة: للحبوب والأعلاف.
- عنقود التحيتا: للتمور والفواكه الاستوائية.
ويشير إلى أن هذه العناقيد ليست مجرد مصانع، بل مراكز متكاملة تضم وحدات تبريد، مراكز أبحاث، بنوك بذور محسنة، وأسواق مزادات إلكترونية لربط المزارع بالمصدر مباشرة.
حجر الزاوية في التحول الاقتصادي
وكشف العذري عن توجه استراتيجي جديد يتم العمل عليه حالياً، يتمثل في إنشاء “مجاميع زراعية إنتاجية منظمة” في مديريات تهامة النموذجية.
ويؤكد أن هذه المجاميع هي الذراع التنفيذي للعناقيد الصناعية المقترحة، قائلاً: “يتم العمل حالياً على تأسيس مجاميع تضم نخبة المزارعين ضمن أطر تنظيمية مرنة، تهدف لتوحيد الجهود وربط المزارع مباشرة بسلاسل القيمة. لن يقتصر دورها على الإنتاج، بل يشمل التخطيط للمحاصيل، تنظيم المياه، والتعاقد المسبق مع المصانع”.
ويلخص العذري التحديات في (الاستنزاف المائي، نقص البنية التحتية، تفتت الملكيات، والتغير المناخي)، بينما تبرز الفرص في (وفرة الأرض، تنوع المحاصيل، الموقع القريب من الموانئ، والعمالة الماهرة).
ويرسم مقترحاً لمسار زمني للنهوض بالمنطقة يبدأ بـ مرحلة الطوارئ (2026-2027) لوقف حفر الآبار والتحول للري الحديث، يتبعها مرحلة التحول (2027-2029) بإقرار وتحديث التشريعات والبنية التحتية، وصولاً إلى مرحلة النضج (2030) حيث تصبح تهامة مركزاً إقليمياً للتصنيع الزراعي يحمل شعار “صنع في تهامة”.
وتظل تهامة هي رئة اليمن الاقتصادية وضمان أمنه الغذائي، فالثورة الاستثمارية المنشودة ليست ترفاً أكاديمياً، وإنما هي ضرورة لإنقاذ الاقتصاد الوطني، ومستقبل اليمن يبدأ من تهامة، ومستقبل تهامة يبدأ من إدارة مستدامة لمائها، وتصنيع ذكي لمنتجاتها، ورؤية شاملة تجمع بين حكمة المزارع وعلم الخبير وهمة المستثمر.




